في غرور فكرهم
(دراسة أرثوذكسية في التعليم البروتستانتي)
مقدمة: هل من أمل للبروتستانت؟
منذ تحوُّلي من البروتستانتية الإنجيلية إلى الإيمان الأرثوذكسي، لاحظت أن أولئك الذين تربُّوا منذ الطفولة في الإيمان الأرثوذكسي يندهشون من أن البروتستانتي قد يتحول إلى الأرثوذكسية. وذلك ليس لعدم ثقتهم من صحة إيمانهم لكن لأنهم لا يتخيلون كيف يستطيع أي شخص أن يتغلَّب على الإصرار البروتستانتي العنيد في الثبات على الخطأ!!
والذي اكتشفته مع الوقت هو أن أغلب الأرثوذكسيين ليست لهم فكرة محددة أو دراية كاملة عن ماهية البروتستانتية وأصلها، وما هو الأساس الذي يقوم عليه الفكر البروتستانتي؟. وبالتالي حينما تدور مناقشة بين من تربوا في الأرثوذكسية مع البروتستانت، فحتى مع استخدام نفس المصطلحات لكنهم يجدون صعوبة في الحوار.. أو بمعنى آخر لا يوجد بينهم أساس لاهوتي مشترك حتى يستطيعوا أن يناقشوا اختلافاتهم. وبالطبع إذا نظرنا الآن إلى ما يزيد حالياً عن عشرين ألف طائفة بروتستانتية مختلفة (والشيء الوحيد الذي يجمع بين كل تلك الطوائف هو إدِّعاء كل طائفة أنها هي وحدها التي تفهم الإنجيل!!) نستطيع أن نتفهم كيف يسبب هذا التعدد الكثير من التشويش.
ولكن بالتأكيد يوجد رجاء للبروتستانت بالرغم من كل ما يعترضهم من عوائق نحو فهم أفضل للإيمان الصحيح، فالكثير منهم يبحثون عن الفكر اللاهوتي البعيد عن التحريف، والعبادة الحقيقية والإيمان المسيحي الأصيل، وهم بالفعل يقرعون أبواب كنائسنا بالطبع قد يكون قولي هذا غريباً بالنسبة للذين لا يحاولون الإنصات. فهؤلاء قد سئموا كثرة التناقضات والإبتداعات في أمريكا البروتستانتية اليوم.
ولكن بينما نفتح لهم الأبواب يجب أن نكون مستعدين: فلهؤلاء الناس أسئلة كثيرة!! الكثير من السائلين هم خدام بروتستانت أو من عامة الشعب المستنيرين، وهم يبحثون عن الحق بإخلاص، ولكنهم محتاجون إلى التخلي عن أفكار كثيرة في ذهنهم، ويحتاجون أيضاً إلى مسيحين أرثوذكس ذوي علم يستطيعون أن يشرحوا لهم أخطاء فكرهم القديم، مسيحين أرثوذكس يفهمون أصول الفكر البروتستانتي- والأهم من ذلك- ويعرفون إيمانهم الأرثوذكسي!!…..
والغريب (أو لعل ذلك بتدبير إلهي) إن زيادة الإهتمام بالأرثوذكسية في وسط الأمريكيين البروتستانت جاء متزامناً مع إنفتاح حدود البلاد الشيوعية السابقة وهجوم لم يسبق له مثيل على شعوبها الأرثوذكسية من قبل عدد لا يحصى من الأديان والطوائف. على رأسهم نجد الأمريكيين “الإنجيليين” و”الكاريزماتكيين” ينافسون بعضهم بعضاَ على نوال شرف التباهي “بنشر الإيمان” بين الروس الملحدين! هكذا فنحن الأرثوذكس أمامنا مهمة مزدوجة. فمن ناحية توجد مهمة تقديم الإيمان [الأرثوذكسي] للبروتستانت هنا في الغرب. و لكن من الناحية الأخرى فعلينا أيضاً أن نحارب بكل جدية إنتشار الهرطقات في وسط الأرثوذكس هنا وأيضاً في البلاد التي هي تقليدياً أرثوذكسية. و في كلا الحالتين يجب علينا أن نعد أنفسنا بالمعرفة والفهم الكافي لتلك الأمور التي تواجهنا.
ربما أصعب ما نجده من سمات البروتستانتية والتي أكسبتها سمعة العناد الصلب ، هي الأفكار الكثيرة المختلفة بل والمتناقضة. وكوحش “الهيدرا”[1] Hydraالأسطوري الذي تتضاعف رؤوسه باستمرار.فإن محاولة فهم ومواجهةكل من هذة الهرطقات على حدى ليس هو السبيل الأمثل للتغلب عليها. فذلك يحتاج إلى دراسة مستفيضة في معتقدات كل طائفة من الطوائف البروتستانتية على حدة، مع معرفة تاريخ وتطور البروتستانتية عامة، وبحث عميق في لاهوتيات وطرق عبادة كل طائفة، ويجب متابعة تلك الأفكار الجديدة التي تتطور (مثل “العاطفية” emotionalism و”التحررية” (liberalism ولكن مع كل هذا قد يكون من المستحيل أن نتابع كل الطوائف الجديدة التي تظهر شبه يومياً.
ومع ذلك فعلى الرغم من كل اختلافاتهم فإن هذه المجموعة غير المنظمة- المكوَّنة من آلاف المجموعات المتفرقة تحت مسمى واحد وهو “البروتستانتية”- تتفق على افتراض واحد أساسي ، وهو أن كل طائفة بروتستانتية تؤمن بأنها وحدها قد “فهمت الإنجيل الفهم الصحيح” وإن لم يتفقوا فيما بينهم على كل ما يقوله الإنجيل ولكنهم عامة متفقون على كيفية دراسة الكتاب المقدس: بمفردك !! وبعيداً عن التقليد الكنسي…
لو استطاع الشخص أن يفهم هذا الفكر ومدى خطأه سيستطيع أن يحاور أي بروتستانتي- أي كانت طائفته- بفكر أشمل. حتى الطوائف المتباعدة عن بعضها فكرياً مثل “المعمدانيين” و”شهود يهوة*” لن نجد بينهم اختلاف كبير كما يبدو لأول وهلة، إن كنا نفهم هذه النقطة الأساسية. وهكذا إن رأيت المعمداني يتحاور مع أحد شهود يهوة حول أي موضوع في الكتاب المقدس ستجدهم في ختام الموضوع لا يستطيعون إلا أن يستشهد كل واحد بآية من الكتاب [ليثبت صحة فكره]. واذا كان الاثنان في نفس المستوى الفكري فحوارهم هذا لن يأتي بشيء لأنهم متفقان على طريقتهما في قراءة الكتاب [أي أن الإثنان يفسران الكتاب بتفسير فردي] ولأن كليهما لا يرى هذا الافتراض المشترك –الذي سبق وأشرنا إليه بأن كل منهما يفهم الإنجيل بمفرده فهماً صحيحاً- بينهما فهما لا يدركان أن المشكلة تكمن أساساً في طريقتهما الخاطئة في دراسة الكتاب. وهنا يكمن قلب وحش الهرطقات، فإن طعنا الوحش في قلبه .. تسقط كل رؤوسه على الأرض مائتة!!
و لكن…لماذا كان فكر الاستناد على الكتاب المقدس فقط؟
لنفهم كيف يفكر البروتستانت، يجب أن نفهم أولاً سبب تمسكهم بفكرهم هذا. ففي الواقع يجب أن نضع أنفسنا في محل “الإصلاحيين”[2] الأوائل مثل “مارتن لوثر”. ولو فعلنا ذلك لكنا نُقَدِّر بعض الشيء الأسباب التي دعتهم للتمسك بمبدأ الـSola Scriptura، حين ننظر إلى فساد كنيسة روما في ذلك الوقت وتعاليمها الفاسدة التي كانت تُعَلِّم بها وفكرها المنحرف عن التقليد الذي استخدمته لتبرر أخطائها، بالإضافة إلى إنقطاع كنيسة الغرب عن أي اتصال بتراثها الأرثوذكسي السابق لقرون طويلة، نعرف كيف كان صعب على شخص مثل “لوثر” في مثل تلك الظروف أن يأتي بنتيجة أفضل. كيف كان يستطيع أن يستند إلى التقليد للرد على تلك التجاوزات الموجودة في الكنيسة إذا كان التقليد في فكر الغرب الروماني متجسداً في “الباباوية”[3]، التي كانت هي نفسها سبب تلك التجاوزات؟ لذلك كان رأي لوثر أن الخطأ هو في التقليد وإن كان يريد إصلاح الكنيسة، فعليه أن يلجأ إلى الكلام المثبت في الكتاب المقدس.
لم يقصد لوثر أبداً في الحقيقة أن يلغي التقليد بالمرة، ولم يستخدم أبداً الكتاب المقدس وحده، بل ما كان يحاول أن يفعله هو أن يستخدم الكتاب المقدس ليتخلص من تلك الأجزاء الفاسدة في التقليد الروماني، ولكن للأسف مغالاته في المناداة بهذا المبدأ تجاوزت حتى ممارسته هو نفسه له، و”الاصلاحيين” الأكثر تشدداً تطرفوا بمبدأ الـSola Scriptura إلى نتيجته الحتمية.